أهلاً رمضان
محمد بن سرّار اليامي
الحمد لله الذي هدانا لأقوم السبل، ونسأله أن يمدنا بعزم لا يأخذه فتور ولا ملل، وأن ينفي عن قلوبنا اليأس ويقوي منّا الأمل، والصلاة والسلام على نبينا محمد المؤيد بأجلّ آية وأسطع برهان، والداعي إلى الدين الحق بأقوم حجة وأبلغ بيان، وعلى آله وأصحابه السادة الأمجاد والذين فتحوا بحكمتهم القلوب، وبأسنتهم الوهاد والنجاد. أما بعد:
فإن رمضان شهر الصبر، ومدرسة الصبر، فالصوم تعويد على الصبر، وتمرين عليه؛ ولهذا ورد عن النبي أنه سمى شهر رمضان شهر الصبر، وفي حديث آخر عنه قال: { الصوم نصف الصبر } [أخرجه الترمذي].
ثم إن الصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة، وتجتمع هذه الثلاثة كلها في الصوم؛ فإن فيه صبرا على طاعة الله، وصبرا عمّا حرم الله على الصائم من الشهوات، وصبرا على ما يحصل للصائم من ألم الجوع، والعطش، وضعف النفس والبدن.
وهذا الألم الناشئ من أعمال الطاعات يثاب عليه صاحبه كما قال تعالى في المجاهدين: ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدونيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين [التوبة:12].
بل إن الصوم يضاعف مضاعفة خاصة، ذلك أن الله عز وجل يتولى جزاء الصائمين، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي قال: { كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف }. قال الله عز وجل: { إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به؛ إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي } الحديث.
قال ابن رجب رحمه الله في هذا الحديث: ( فعلى هذه الرواية يكون استثناء الصوم من الأعمال المضاعفة، فتكون الأعمال كلها تضاعف بعشر أمثالها إلا الصيام، فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد، بل يضاعفه الله عز وجل أضعافا كثيرة يغير حصر عدد؛ فإن الصيام من الصبر وقد قال الله تعالى: إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر:10] ). أ هـ.
وهكذا يتبين لنا عظم الارتباط بين الصوم والصبر، وأن الصوم سبيل إلى اكتساب خلق الصبر، ذلك الخلق العظيم الذي أمر الله به وأعلى مناره، وأكثر من ذكره في كتابه، وأثنى على أهله القائمين به، ووعدهم بالأجر الجزيل عنده.
قال تعالى: واصبر وما صبرك إلا بالله [النحل:127]ٍ، وقال: ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [الشورى:43]، وقال عز وجل: يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا [آل عمران:200]، وقال: وبشّر الصابرين [البقرة:155].
وقال النبي في الحديث: { ومن يتصبّر الله يصبره الله، وما أعطي أحد عطاءا أعظم ولا أوسع من الصبر }.
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( وجدنا خير عيشنا بالصبر ).
وقال: ( أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريما ).
وقال أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: ( الصبر مطية لا تكبو ).
وقال الحسن رحمه الله: ( الصبر كنز من كنوز الخير لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده ).
فالصائم المحتسب يفيد دروسا جمّة في الصبر من جرّاء صيامه؛ فهو يدع الطعام والشراب والشهوة حال صيامه، فيفيد درسا عظيما في الصبر، حيث يتعوّد فطم نفسه عن شهواتها وغيّها.
والصائم المحتسب إذا أوذي أو شتم لا يغضب، ولا يقابل الإساءة بمثلها، ولا تضطرب نفسه؛ فكأنه بذلك يقول لمن أساء إليه: افعل ما شئت، فقد عاهدت ربي بصومي على أن أحفظ لساني وجوارحي؛ فكيف أخيس بالعهد، أو أسيء إليك كما أسأت إليّ، لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ..
الصائم المحتسب لا يثور لأتفه الأسباب كحال من لم يتسلحوا بالصبر، ممن يظنون أن الصوم عقوبة وحرمان، فيخرجون عن طورهم، وتثور نفوسهم، وتضطرب أعصابهم.
أما الصائم المحتسب فتراه هادئ النفس، ساكن الجوارح، رضي القلب. والصائم المحتسب يطرد روح الملل، لأن صيامه لله، وصبره بالله، وجزاءه على الله.
والأمة الصائمة المحتسبة تتعلم الانضباط والصبر على النظام، والتحرر من أسر العادات.
وهكذا يتبين لنا أثر الصيام في اكتساب خلق الصبر؛ فإذا تحلى الإنسان به كان جديرا بأن يفلح في حياته، وأن يقدم الخير العميم لأمته، ويترك فيها الأثر الكبير. وإن عطل من الصبر فما أسرع خوره، وما أقل أثره.
ثم إن الإنسان - أي إنسان - لا بد له من الصبر إما اختيارا وإما اضطرارا، ذلك أنه عرضة لكثير من البلاء في نفسه بالمرض، وفي ماله بالضياع، وأولاده بالموت، وفي حياته العامة بالحروب وتوابعها من فقدان كثير من حاجاته التي تعوّدها في حياته؛ فإذا لم يتعوّد الصبر على المشاق وعلى ترك ما يألف وقع صريع تلك الأحداث.
وكذلك حال الإنسان مع الشهوات؛ فهي تتزي له وتغريه، وتتمثل له بكل سبيل؛ فإذا لم يكن معه رادع من الصبر، ووازع من الإيمان أوشك أن يتردى في الحضيض.
ومن كان متصديا للدعوة إلى الإصلاح، منبريا للدفاع عن الحق فما أشد حاجته إلى الصبر، وتوطين نفسه على المكاره؛ فإن في ذلك السبيل عقبة كؤودا لا يقتحمها إلا ذو الهمم الكبيرة؛ فإن في طوائف المبطلين أو المفسدين نفوسا طاغية، وأحلاما طائشة، وألسنة مقذعة، وربما كانت في أيد باطشة، وأرجل إلى غير الحق ساعية. وإنما تعظم همة الداعي إلى الحق والإصلاح بقدر صبره، وبقدر ما يتوقعه من فقد محبوب، أو لقاء مكروه؛ فلابد لأهل الحق من الصبر على دعوة الناس، ولابدّ لهم من الصبر في إنتظار النتائج، لأن استعجال الثمرة قد يؤدي إلى نتائج عكسية تضر أكثر مما تنفع؛ فالصبر إذا اقترن بالأمر كان عصمة للداعية من الانقطاع، وتفجرت بسببه ينابيع العزم والثبات.
مازال